ألمانيا تقترح على الجزائر أن تكون كـ "منفى علاجي ناعم" لبوعلام صنصال لِتُخلصها من ورطة اعتقاله دون أن تُتَهَمَ بـ"بيع ملف السيادة" داخليا
تبدو قضية بوعلام صنصال، الروائي الجزائري/الفرنسي المُسنّ والمريض بالسرطان، أكبر بكثير من ملف قضائي يخصّ كاتبا معارضا، بل هو تحول تدريجي إلى اختبار حقيقي لقدرة النظام الجزائري على تدبير الضغط الأوروبي المتصاعد دون أن يظهر في موقع من يرضخ للإملاءات، وفي الوقت نفسه دون أن يُجازف بما تبقّى له من هوامش في علاقاته مع العواصم الأوروبية التي يحتاجها اقتصاديا وسياسيا في ظرف إقليمي ودولي حرج سيّما في ظل التقارب المغربي الأوروبي الذي يسبق الاعتراف الأممي بمغربية الصحراء.
والملاحظ أنه في أقل من أسبوع، تداخلت ثلاثة خطوط ضغط واضحة، أولها رسالة رسمية من الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير يطلب فيها من عبد المجيد تبون ''بادرة إنسانية'' للعفو عن صنصال، مع عرض نقله إلى ألمانيا للعلاج، ثم تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو عن "حوار متطلِّب" مع الجزائر بهدف الإفراج عن الكاتب ثم خروج رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية نيكولا ليرنير أول أمس الاثنين، ليقول على الهواء إن هناك "إشارات" من الجزائر لاستئناف الحوار مع باريس بعد "أخطر أزمة منذ الاستقلال" بين البلدين.
في المقابل، تحاول الرئاسة الجزائرية أن تقدم التطور الأخير في الملف باعتباره استجابة لطلب ألماني محض وبصيغة إنسانية باردة تقريبا، مع تجنب أي إشارة إلى فرنسا أو إلى سياق الأزمة الدبلوماسية معها، وكأنّ الأمر لا يعدو كونه إجراء إنسانيا محدود الأثر لا يمسّ بالثوابت ولا يعكس أي تراجع سياسي يعقب الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء.
صنصال.. من روايات الديستوبيا إلى سجن الدولة
بوعلام صنصال، البالغ من العمر ثمانين عاما والمصاب بسرطان البروستاتا، ليس مجرد اسم في لائحة سجناء الرأي، هو اليوم واحد من أبرز الأصوات الروائية النقدية في الفضاء الفرنكوفوني، حيث سبق أن نال جوائز أدبية مرموقة، وتموضع منذ سنوات في خانة المثقف المقلق للسلطة في الجزائر بسبب مواقفه الحادة من النظام ومن "الذاكرة الرسمية" للحرب والاستقلال.
اعتُقل في نونبر 2024، ثم أدانته المحاكم الجزائرية في مارس الماضي بخمس سنوات سجنا وغرامة مالية، بتهم ثقيلة تمتد من "المساس بالوحدة الوطنية وسلامة التراب الوطني" إلى "المساس بالاقتصاد الوطني" و"التخابر مع أطراف أجنبية" على خلفية تصريحات أدلى بها لوسائل إعلام فرنسية، اعتبر فيها أن فرنسا الاستعمارية ضمّت جزءا من الأراضي المغربية إلى الجزائر خلال فترة الاستعمار، أي أنه لمس أحد أكثر الملفات حساسية في سردية الحدود ومشروع الدولة الجزائرية بعد 1962.
منذ ذلك الحين، تحوّلت قضية صنصال إلى بؤرة توتر دبلوماسي مع باريس حيث تمت تعبئة من المثقفين الفرنسيين والأوروبيين، قرار للبرلمان الأوروبي حول قضيته، وردّ غاضب من البرلمان الجزائري يتهم أوروبا بالتدخل في الشؤون الداخلية وباستنساخ "منطق الوصاية الاستعمارية".
ألمانيا تدخل على الخط.."بادرة إنسانية" أم مخرج دبلوماسي؟
الجديد، اليوم، هو أن الطلب لم يَعُد يأتي فقط من النخب الثقافية أو من الدبلوماسية الفرنسية، بل من رأس الدولة الألمانية. فالرسالة التي كشفت عنها الرئاسة الجزائرية والآتية من الرئيس فرانك فالتر شتاينماير، تطلب رسميا من تبون عفوا عن صنصال ''كبادرة إنسانية" مع اقتراح نقله إلى ألمانيا للاستشفاء، استنادا إلى عمره المتقدم وحالته الصحية المتدهورة، وإلى كونه حصل في يوليوز 2025 على "جائزة السلام" من جمعية الكتّاب الألمان.
هذا التفصيل مهمّ، لأن برلين ليست طرفا في تعقيدات الذاكرة الاستعمارية في المغرب الكبير، وليست متورطة في ملف الصحراء كما فرنسا أو إسبانيا، لكنها في الوقت ذاته قوة أوروبية محورية وشريكا اقتصاديا مهما للجزائر بمجال الطاقة، في مرحلة تبحث فيها أوروبا عن تنويع مصادر الغاز بعد الحرب في الروسية الأوكرانية، وبالتالي فإن تجاهل طلب بهذا المستوى، صادر عن رئيس دولة كألمانيا، سيكون رسالة سلبية إلى الاتحاد الأوروبي بأكمله، وليس إلى باريس وحدها.
من هنا يمكن قراءة اختيار الجزائر أن تعلن عبر بيان رسمي وبث تلفزي عن رسالة شتاينماير أن النظام الجزائري يختبر ردود الفعل، داخليا وخارجيا، ويُمهّد الرأي العام لاحتمال تسوية تحفظ ماء وجهه أي عفو "إنساني" بطلب ألماني، وليس رضوخا للضغط الفرنسي مع إخراج صنصال من البلاد في صيغة "منفى علاجي" يخفف التوتر دون أن يحوّله إلى رمز معارض داخل التراب الوطني.
باريس.. من الاعتراف بالصحراء المغربية إلى "حوار متطلِّب" مع الجزائر
في الجانب الفرنسي، تأتي قضية صنصال في سياق أزمة أعمق، فمنذ أن قررت باريس في 30 يوليوز 2024 الاعتراف عمليا بسيادة المغرب على الصحراء، واعتبار مبادرة الحكم الذاتي المغربي "الإطار الوحيد" للحل السياسي، دخلت العلاقات الفرنسية الجزائرية في نفق أزمة غير مسبوقة، دفعت إلى استدعاء السفير الجزائري في باريس، مع اتهامات جزائرية لفرنسا بأنها "انحازت" إلى الرباط على حساب "الشرعية الدولية".
وتلك النقطة المفصلية انعكست على كل الملفات، الهجرة، الذاكرة، التعاون الأمني، وملف الصحراء نفسه، فيما ووسط هذه المتاهة، جاء اعتقال صنصال ثم الحكم القاسي عليه ليُؤطَّر أيضا في باريس ضمن هذه الأزمة، لا بوصفه قضية حقوقية فحسب بل أيضا كورقة في لعبة موازين القوى مع الجزائر.
وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو تحدث قبل أيام عن "حوار متطلِّب" مع الجزائر، مؤكدا أن باريس تتحرك من أجل الإفراج عن صنصال.
بالتوازي، خرج رئيس الاستخبارات الفرنسية نيكولا ليرنر في مقابلة إذاعية ليكشف عن "إشارات" من الجانب الجزائري لاستئناف الحوار، لكنه ذكّر بشروط باريس وفي مقدمتها الإفراج عن "مواطنيْن فرنسييْن" لا يزالان معتقلين في الجزائر، من بينهم الكاتب بوعلام صنصال كما وصف الأزمة الحالية بأنها "ربما أخطر أزمة بين البلدين منذ استقلال الجزائر سنة 1962"، مع الإشارة إلى أن قنوات التواصل الأمنية لم تُقفل تماما لكنها في "أدنى مستوياتها" خصوصا في مجال مكافحة الإرهاب.
وبهذا المعنى، يتحول ملف صنصال إلى مفصل في معادلة تفاوضية أوسع هي أن الجزائر تريد تخفيف الاحتقان مع باريس دون أن يبدو الأمر تنازلا مجانيا، وفرنسا تريد ترجمة اعترافها القوي بالصحراء المغربية الذي أعاد تموضعها في المنطقة إلى مكاسب ملموسة على مستوى الملفات الإنسانية والاقتصادية والأمنية.
"خائن لا يعرف أباه".. كيف تغيّر خطاب الرئاسة؟
قبل أقل من عام، وبالضبط في نونبر الماضي، كان الرئيس تبون يستخدم خطابا شديد القسوة تجاه فرنسا على خلفية ملف صنصال، حين خاطب باريس بعبارة صادمة: "أرسلتم إلينا لص ومجهول الهوية.. ومجهول الأب ليقول لنا إن نصف الجزائر ينتمي إلى بلد آخر".
في تلك اللحظة، قدّمت السلطة الجزائرية الكاتب للرأي العام كرمز لـ"الخيانة" و"الطعن في وحدة التراب الوطني" وربطت تصريحاته حول ضمّ أجزاء من الأراضي المغربية إلى الجزائر بالخط الأحمر للهوية الوطنية وحدود الدولة.
اليوم، البيان الرئاسي نفسه يذكر عمر الرجل ومرضه وجائزة ألمانية للسلام، ويتحدث عن طلب عفو من رئيس دولة شريك، دون أن يعيد إنتاج خطاب التخوين والتشويه الذي سيطر على الأشهر الأولى من القضية.
وهذا التحول الخطابي ليس تفصيلا، إنه مؤشر على أن السلطة تهيئ الأرضية لقرار مختلف أي كيف تنتقل من لغة التخوين والقمع إلى لغة "الإنسانية" دون أن تُتَّهَم بالتراجع أو بـ"بيع ملف السيادة" تحت الضغط الأوروبي؟
الجزائر في مرمى ضغط أوروبي متعدد الطبقات
إذا وضعنا كل هذه العناصر في سياق أوسع، سنجد أن الجزائر ليست تحت ضغط باريس وبرلين وحدهما، بل في مرمى منظومة أوروبية أوسع، فالبرلمان الأوروبي ناقش وصوّت على قرار خاص بقضية صنصال، في سياق انتقاده لتدهور الحريات في الجزائر، وبرلمانات أوروبية وحكومات في العواصم الغربية تنظر إلى القضية على أنها نموذج لسلطة تستخدم قوانين مكافحة الإرهاب ومواد "المساس بالوحدة الوطنية" لخنق الأصوات المعارضة.
الصحافة الأوروبية، من"لو موند" إلى وسائل إعلام ألمانية وفرنسية أخرى، تقدّم القضية باعتبارها جزءا من انزياح تدريجي للنظام الجزائري نحو مزيد من السلطوية والتشدد.
إلى جانب ذلك، تواجه الجزائر حالة عزلة دبلوماسية متزايدة في شمال إفريقيا وأوروبا بعد أن انحازت قوى غربية مركزية، من الولايات المتحدة إلى فرنسا وبريطانيا لصالح مبادرة الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، في الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ الجزائر في الساحل وتُثار أسئلة حول جدوى استراتيجيتها الإقليمية.
وهذه العزلة ليست مجرّد انطباع إعلامي، هي واقع ينعكس على سمعة الجزائر كشريك للطاقة، وكقوة إقليمية تريد أن تُقدِّم نفسها كقوة "مستقلة" عن فرنسا والغرب، لكنها في المحصلة تحتاج إلى الأسواق الأوروبية والاعتراف الأوروبي بدورها في ملفات مثل ليبيا والساحل والهجرة.
بين حفظ ماء الوجه والخوف من المُقامرة بالعلاقات الأوروبية
في هذا الإطار، يمكن فهم سلوك الجزائر، اليوم، كعملية موازنة دقيقة بين ثلاثة اعتبارات متنافرة، أولها الحفاظ على السردية السيادية الداخلية، إذ لا تريد السلطة أن تظهر أمام الداخل، وأمام جزء من النخب العسكرية والأمنية كمن خضع لابتزاز باريس بعد اعترافها بالصحراء المغربية، أو كمن قَبِل بإملاءات البرلمان الأوروبي، لذلك يشكّل الوسيط الألماني فرصة ذهبية يمكن للنظام أن يقول إنه استجاب لطلب "صديق أوروبي" لا علاقة له بالتاريخ الاستعماري، وفي إطار إنساني صرف.
ثانيا، عدم المغامرة بعلاقته مع أوروبا ككل، فالجزائر تعرف أن تجاهل طلب رسمي من رئيس ألمانيا، في ظل ملف إنساني واضح (كاتب مسنّ ومريض، حائز على جوائز، وملفّه حاضر في البرلمان الأوروبي)، سيُقرأ في برلين وبروكسيل وباريس ومدريد كرسالة تحدٍّ، في وقت تحتاج فيه الجزائر إلى استثمارات أوروبية وإلى استمرار الطلب على غازها.
وثالثا، تخفيف حدّة الأزمة مع فرنسا دون "الانحناء" لها من خلال تصريحات ليرنر وبارو تعكس استعداد باريس لترميم العلاقات، لكن بشروط، أبرزها الإفراج عن المعتقلين الفرنسيين، أيّ عفو عن صنصال سيُحتسب في باريس ضمن رصيد هذا "الحوار المتطلِّب" بينما ستصرّ الجزائر على تقديمه في الداخل كـ"مبادرة سيادية" استجابة لطلب ألماني إنساني، وليس "انتصارا فرنسيا".
قراءة في "الإخراج" المحتمل لصفقة صنصال
إذا سارت الأمور نحو عفو فعلي عن بوعلام صنصال، كما توحي كثافة الإشارات الدبلوماسية والإعلامية، فإن الإخراج المرجّح قد يكون على النحو التالي: أولا قرار عفو رئاسي مبرَّر بالعوامل الإنسانية (السن، المرض، الجائزة الأدبية، المسار الثقافي…) أو الاحتمال الثاني هو اتفاق غير مُعلن يقضي بسفره إلى ألمانيا لتلقي العلاج، ما يحوِّل العفو عمليا إلى نفيٍ ناعم، يُخرج رمزا مزعجا من المشهد الداخلي، ويقلّص احتمالات تحوله إلى أيقونة معارضة داخل السجون أو الشارع، وأيضا توظيف رسمي للقرار لتلميع صورة النظام في المحافل الدولية، وإبراز "قدرة الدولة على الإصغاء لشركائها الأوروبيين دون التفريط في سيادية".
في المقابل، ستستخدم باريس أي خطوة من هذا النوع كدليل على فعالية استراتيجيتها الجديدة في المغرب الكبير،ـ أي أن الاعتراف بالصحراء المغربية لم يمنعها من الاحتفاظ بقنوات ضغط على الجزائر، بل مكّنها من إعادة صياغة علاقتها مع الرباط والجزائر معا على قاعدة جديدة هي دعم واضح للمغرب، وحوار "متطلّب" مع الجزائر، مع ترك هامش لدول أوروبية أخرى (ألمانيا مثلا) للقيام بأدوار الوساطة الإنسانية.
ما وراء الإنساني.. رسالة إلى الداخل والخارج
في الجوهر، لا تتعلق قصّة بوعلام صنصال اليوم بمصير فرد فقط، مهما كان رمزيا، بل بمسار دولة وجدت نفسها في تقاطع ضغوط أوروبية متزايدة، وفي سياق إقليمي تتحرك فيه موازين النفوذ بسرعة لصالح خصمها التقليدي المتمثل في المغرب.
الجزائر تحاول أن تقول للأوروبيين إنها ما زالت شريكا ضروريا في الطاقة والأمن والهجرة، وأنها مستعدة لتقديم "تنازلات إنسانية" مدروسة إذا احترمت أوروبا "خطوطها الحمراء"، وفي الوقت نفسه، تحاول أن تقول لداخلها إنها لم تُهزم أمام فرنسا، وإن أي عفو عن صنصال إن حصل ليس تراجعا عن سردية "الوحدة الوطنية" ولا اعترافا بصحة ما قاله عن الحدود الاستعمارية، بل مجرد "لفتة إنسانية" لرجل مسنّ مريض.
بين هذين الخطابين، يتحرك النظام على حبل مشدود الأول خطوة صغيرة في الاتجاه الخاطئ يمكن أن تُفسَّر في باريس وبرلين وبروكسيل كمؤشر على تصلّب سلطوي يكرّس عزلة إقليمية ودولية أكبر، ويمكن في الداخل أن تُقرأ كتنازل مؤلم أمام "ضغط الخارج"، لذلك، تبدو قضية صنصال اليوم اختبارا حقيقيا لقدرة السلطة في الجزائر على إنتاج تسوية تحفظ ماء الوجه، وتمنع في الوقت ذاته مزيدا من التدهور في علاقاتها مع أوروبا، في لحظة تاريخية بات فيها ملف الصحراء، وامتداداته الجيوسياسية يضغط على كل خيوط المعادلة المغاربية الأوروبية دفعة واحدة.




